recent
أخبار ساخنة

حين يعلو الصوت… ويغيب العقل! بقلم محمود سعيد برغش


كتب/محمود سعيد برغش 
قوّة الملامح أم فراغُ الدواخل؟

في زمنٍ ازدادت فيه الضوضاء، وارتفع الصراخ، وكثر الادعاء، أصبح من السهل أن يختلط على الناس الصوت العالي بالقيمة الحقيقية، وأن يظنّ البعض أن الظهور يكفي ليصنع مكانة، وأن الصراخ وحده يبني هيبة.
لكن الحقيقة أن الصوت المرتفع غالبًا ما يكون قناعًا هشًّا يُخفي فراغًا داخليًا لا يلبث أن يتكشّف مع أول اختبار.

في القرى الهادئة، تلك التي يسكنها الصدق أكثر مما يسكنها البشر، نسمع حكمةً أعمق من مئة كتاب:
"في ناس عامله في الضِّبلة… صوتها عالي بس جواها فاضي."
حكمةٌ تلخص مشهدًا إنسانيًا كاملًا: أشخاص يرفعون أصواتهم ليغطّوا على ما ينقصهم، ويتصدرون المشاهد ليخفوا هشاشتهم، يظنون أن الارتفاع يغنيهم عن العمق، وأن الضوضاء تُغني عن الفعل.

وفي المقابل، هناك من يمشون بين الناس بصمتٍ مطمئن، يحملون في داخلهم قيمًا راسخة وعقولًا واعية وأخلاقًا ثابتة. هؤلاء لا يحتاجون إلى ضوضاء ليُسمَعوا، ولا مبالغة ليُعرفوا، ولا صوتٍ مرتفع ليُقدّروا. فالقيمة تُرى… ولا تُصرَخ.


وفي الإطار الشرعي: الصمت حكمة… ورفع الصوت جهل

جاء الإسلام بمنهجٍ أخلاقي عظيم يربّي النفس على الحِلم، والهدوء، والاتزان، واعتبار الجوهر هو المعيار، لا ارتفاع الصوت ولا كثرة الكلام.


قال تعالى 
1. ﴿وَعِبَادُ الرَّحْمَٰنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا﴾ — الفرقان: 63
هذه الآية ترفع قدر الهادئين وتصف الجاهلين بأنهم أصحاب الصوت الفارغ.


2. ﴿وَلَا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا﴾ — لقمان: 18
نهيٌ عن التكبر ورفع الصوت التعالي بلا حق.


3. ﴿وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِن صَوْتِكَ ۚ إِنَّ أَنكَرَ الْأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ﴾ — لقمان: 19
في هذا النص بيان أن الصوت المرتفع ليس دليل قوّة، بل علامة جهل وغياب حكمة.

ومن الأحاديث النبوية 
1. قال النبي ﷺ: «من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرًا أو ليصمت»
دعوة واضحة: الصمت خيرٌ من كلامٍ بلا نفع.


2. وقال ﷺ: «إن الله لا ينظر إلى صوركم ولا إلى أموالكم، ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم»
القيمة ليست في الشكل ولا في الادّعاء… بل في القلب والعمل.


3. وقال ﷺ: «إن الرجل ليتكلم بالكلمة لا يرى بها بأسًا يهوي بها سبعين خريفًا في النار»
الكلمة المرتفعة بلا عقل قد تجرّ صاحبها إلى الهلاك.

وكان راي الصحابة والخلفاء الراشدين

1. عمر بن الخطاب رضي الله عنه:
«ما ندمت على سكوتي مرة، لكنني ندمت على الكلام مرارًا».
عمر الذي كان إذا غضب هزّ الجبال… كان يرى الحكمة في الصمت.


2. علي بن أبي طالب رضي الله عنه:
«قيمة كل امرئ ما يُحسِن».
القيمة مرتبطة بالإحسان… لا بالصوت.


3. أبو بكر الصديق رضي الله عنه:
«إذا رأيتم الرجل يعادي الناس فاعلموا أن شرًّا فيه».
الصوت العالي كثيرًا ما يكون سلوكًا عدائيًا يخفي نقصًا داخليًا.


ومن راي العلماء والفقهاء

1. الحسن البصري:
«اللسان ملك… فإذا ساسه العقل سلم، وإذا تركه كان وبالًا».


2. الإمام الشافعي:
«إذا نطق السفيه فلا تجبه… فخيرٌ من إجابته السكوتُ».


3. ابن القيم:
«الجاهل يُعرَف بارتفاع صوته، والعاقل يُعرَف بارتفاع قَدْره».


4. سفيان الثوري:
«من كثر كلامه كثر خطؤه».



وهذه الأقوال والاراء المتتابعة ترسم منهجًا واضحًا: القيمة في العقل والاتزان، لا في الضوضاء والصوت العالي.

بين صوتٍ يعلو… وصوتٍ يُسمَع

الصوت المرتفع يُخيف الناس لحظات…
لكن الفعل الصادق يبقى في الذاكرة سنوات.

الصوت العالي قد يفرض وجودًا مؤقتًا…
لكن الأخلاق تبني وجودًا لا يزول.

الفراغ الداخلي يمكن إخفاؤه بالكلمات…
لكن لا يمكن إخفاؤه في المواقف.

والناس — حتى وإن انخدعوا وقتًا — يعودون إلى ميزانهم الفطري:
ميزان يحترم الجوهر ويرفض الضجيج.

وفي عالمٍ امتلأ بالصراخ، ومعارك الكلمات، وحروب الأصوات، تظل الحكمة القديمة صادقة:
«الهدوء ليس ضعفًا… والصوت العالي ليس قوة.»

والإنسان الذي يحمل في داخله نورًا، لا يحتاج أن يرفع صوته ليُرى.
يكفيه أن يمشي بثبات… فتتكلم أخلاقه قبل لسانه، وتسبق أفعاله ضجيجه.

وهنا يبقى السؤال للقارئ الكريم:
هل تريد أن تكون صدى صوتٍ مؤقت؟
أم أثرًا لا يزول؟
google-playkhamsatmostaqltradent